ستنحدر من عيـون أهالي قطاع غـزة دمعات حـارة ساخنة وهم يصافحون رمضان هذا العام، فشهر التكافل والرحمة يهل عليهم وقـد انغرست خناجر الألم والحزن في خاصرة كل بيت وشارع.
فغـزة الخارجة من أتون حربٍ إسرائيلية شـرسة تستقبل رمضان، وقد رحـل عنها أبناؤها وأحبتها إلى جانب ما خلفته الحرب من جروح لم تندمل، وللعام الثالث على التوالي سيأتي رمضان والحصار الخانق يكبل أذرعها ويقتل تفاصيل حياتها. وتكـاد مشـاعر وجع الحرب تختلط مع ألم الحصار، فتشكلان لوحة مخضبة بالأسى لتختصر كل أحزانها وأوجاعها وحال لسان أهلها يقول: "لم جئت يا رمضان؟".
حياة معطوبة
"أسواق خالية.. جيوب تشتكي الفقر.. وجوه يسكنها الحزن.. وبيوت احتلها الألم والعجز.. وآهات تخرج من كل لسان وتمتلئ بها العيون والقلوب" بتلك العبارات الموجزة، اختصرت "هدى الأسطل" حال قطاع غزة وهو على أبواب رمضان.
وتتابع هدى حديثها "والدي عاطل عن العمل منذ أعوام، وكل مقومات الحياة في بيتنا معطلة وبالكاد نتنفس، أظن أننا سنصوم الليل مع النهار فلا مجال للإفطار في ظل هذه الحياة المعطوبة".
أما إيهاب الأشقر صاحب الأربعة عشر عاماً فقد كتب برقية اعتذار لرمضان ليؤجل قدومه هذا العام قليلا،
وبلسانٍ ساخر يضيف إيهاب: "كل المعابر موصدة بوجوهنا وبشتى السبل يتفننون بحصارنا وقتلنا ببطء، فكيف سمحوا لرمضان بالمرور والدخول لغزة؟ ربما لأنه لا يحمل أية مساعدات أو حملات إغاثية".
ويعيش قطاع غزة حصارا خانقا منذ ثلاثة أعوام أفقدته كل مقومات الحياة وقتلت فيه التفاصيل الجميلة، ليعيش الأهالي واقعاً مأساوياً صعباً على كافة الأصعدة والجوانب المعيشية.
بـ"نكهة التقشف"
جولات قصيرة في أسواق القطاع، كانت كفيلة بإعطاء مؤشر على حجم المأساة التي تنذر بعواقب وخيمة على المواطن الغزّي العاجز عن توفير أدنى متطلبات الحياة.
بتذمر قال محمد فرج صاحب أحد المحلات التجارية وسط مدينة غزة: "نحن على أبواب رمضان وكل الناس تأتي للتبضع والتسوق، ولكنهم يرجعون لبيوتهم بأيدي بيضاء فارغة، والسبب إما لغلاء الأسعار أو لعدم وجود المواد التموينية المطلوبة".
وبحزن أكد محمد "شهر رمضان الموسم لكل التجار؛ بسبب إقبال الناس الشديد على الشراء، ولكن رمضان الحالي فقير وبائس، فالبضائع شحيحة وغائبة وإن توفرت فهي غالية الثمن، فمعظمها يأتي مهربا عبر الأنفاق مع مصر، والقدرة الشرائية ضعيفة جدا".
ومؤخرا عانى التجار من شح البضائع نتيجة تكرار حوادث انهيار الأنفاق وموت العشرات من العاملين فيها، إلى جانب محاربة السلطات المصرية لما يصفه الغزيين بـ"شريان حياتهم".
وأمام حرارة فواتير الحياة ستضطر العائلات إلى حذف خيارات كثيرة من القائمة الرمضانية مكتفية بنكهات التقشف، وستتحول تحولت الأساسيات إلى كماليات، أما الكماليات فلن يبقى لها مكان على أرض الواقع!.
والقهر يطل من وجهه يقول أبو محمد الشوا "المتجول في السوق للتبضع بحاجيات رمضان تنتابه الحسرة والألم، فالأسعار نار والحالة الاقتصادية صعبة للغاية والذي كنا نوفره على مائدتنا العام الماضي لن نستطيع توفيره في رمضان القادم".
حزين ودامع
وتضرب نهاد الحلو الأم لثمانية أطفال يدها كفاً بكف، بعد ما ضاقت ذرعاً بطلبات صغارها، فزوجها عاطل عن العمل ولا يستطع توفير أدنى الاحتياجات، وبسخط قالت: "طلبات الأولاد في رمضان كثيرة لا تنتهي ونفقاتهم أكبر.. وللأسف هذا العام لن نتمكن سوى توفير أهم الأهم وسنكتفي بصنف واحد سواء على الإفطار أو السحور".
"بابا لن يأتى لنا باللحوم والأسماك ولا الفواكه، سنكتفي بالفول والحمص فقط، والفانوس لن نشتريه والوجبات الشهية سنحذفها من قاموس لغتنا، والسهرات الرمضانية سنودعها"، بهذه العبارات البسيطة وصفت الطفلة وئام حال بيتهم في رمضان, وتابعت بحسرة: "رمضان هذا العام حزين ودامع".
وفي ظـل الحصار الخانق تطل أرقام الإنذار من مستقبلٍ قاتم ستخيم ظلاله على القطاع المحاصرة، إذ يؤكد جمال الخضري رئيس اللجنة الشعبية لفك الحصار أن 80% من المواطنين في غـزة يعيشون تحت خط الفقر، وأن نحو 140 ألف عامل عاطلون عن العمل، وأكثـر من مليون شخص في غزة يعيشون على المساعدات.
على أضواء الشموع
وان كانت نهارات رمضان ستمر قاسية ومؤلمة على قلوب أهالي غزة، فإن المساءات ستكون أكثر بؤساً وشقاء فمشهد انقطاع التيار الكهربائي سيفرض نفسه وبقوة هذا العام، والإفطار في أضواء الشموع سيكون سيد الموقف.
أم باسل خاطر لم تستعد لرمضان بملء مطبخها وثلاجتها بالحاجيات وتجهيز البيت بشتى الأصناف والمأكولات، بل سارعت إلى اقتناء الشموع وتخزينها قبل نفادها من الأسواق.
وهي تقلب الشموع بين يدها قالت أم باسل: "في الأعوام السابقة كنا نعاني من انقطاع التيار الكهربائي وعدم وجود شموع في الأسواق، واضطررنا في مرات عديدة إلى لإفطار في الظلام ولا أريد لهذه المأساة أن تتكرر", واستدركت قائلة: "ألا يكفي شبح الفقر المسيطر على حياتنا حتى نور الكهرباء سنُحرم منه.. حياتنا لا تُطاق".
وكانت محطة الكهرباء قد حذرت في الأسبوع الماضي، من مغبة أزمة عنيفة في توزيع التيار الكهربائي خاصةً في ساعات المساء، بسبب نقص حاد وقالت أن هذه الأزمة ستحول ليل رمضان إلى ظلام.
وطالبت سلطة الطاقة في غزة الاتحاد الأوروبي، بالضغط على إسرائيل لإدخال السولار اللازم لتشغيل المولد الإضافي -الذي تمت صيانته في مصر مؤخراً- والذي يرفع قدرة إنتاج المحطة لتخفيف عن أهالي القطاع