بقلم: حسن الحسن. -الرأسمالية الأخلاقية.
-البدائل الإسلامية.
-إشكاليات البدائل المقترحة.
-الحلّ الإسلامي المتكامل.
أحدثت الأزمة المالية العالمية صدمة نوعية في كافة الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية حتى وصفت بأنها "التسونامي المالي للقرن الحالي" بحسب تصريح لمحافظ الاحتياطي الفدرالي الأميركي السابق ألن غريسبان وهو ما حدا بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كذلك إلى إطلاق تصريحه "إنّ النظام العالمي كان على شفا الكارثة".
لا عجب أن يدهش الجميع لهذه الأزمة، فقد أتت بينما كان النظام الاقتصادي العالمي يسير باتجاه تتويج الرأسمالية المعولمة بأبشع أشكالها وأشدها حدة سيدة مطلقة على العالم، مما يعتبر انتكاسة حقيقية للفكر الرأسمالي، وإخفاقاً ذريعاً في عولمته، لا سيّما مع غياب أي منافس له في الساحة الدولية (أي أنه يلعب لوحده ويخسر.
الأسوأ حقاً هو أنّ أرباب الرأسمالية، لا يدرون إن كانت قد وصلت الأزمة المالية إلى القاع أم لم تصل بعد، وهو ما أضعف قدرتهم على إيقاف تدهور الأوضاع المالية، فضلاً عن عجزهم عن اجتراح معجزة لمعالجة هذه الأزمة من جذورها، وهو ما دفع رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون إلى القول "إنّ ما يتطلبه الموقف الآن هو مراجعة عالمية شاملة للنظام العالمي".
كما أنّ الارتباك في معالجة الأزمة والقلق مما يمكن أن تؤول إليه الأمور كان جلياً في موقف كل من ألمانيا وفرنسا بشأن المقترحات الأميركية بهذا الشأن إبان قمة العشرين.
ورغم ادعاء التوافق بين الدول المجتمعة حول قرارات قمة لندن بصيغتها النهائية، إلا أنّ تلك القرارات نفسها هي بمثابة تغذية أسباب المشكلة بدلاً من إنهائها. كزيادة موارد صندوق النقد الدولي بواقع خمسمائة مليار دولار لمواجهة الأزمة، رغم إدراك الجميع سوء واقع هذه المؤسسة المالية وما تسببت به من تخريب لاقتصاديات دول كثيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
الرأسمالية الأخلاقية
في خضم هذه الأزمة العاصفة، تحفز كثيرون إلى التعبير عن سخطهم من الرأسمالية المنفلتة التي لا ضابط لها، تلك التي تخضع بحسب معايير آدم سميث إلى قاعدة "دعه يعمل دعه يمر"، ذلك المفكر الغربي الذي يؤمن بالسوق كحلبة صراع حرة بلا أية قيود أو قواعد سوى حرية التجارة والتنافس في الأسواق، وهو ما يؤدي بحسب قرينه ليفي شتراوس إلى "بقاء الأقوى".
لقد عكست هذه الأزمة فداحة الرأسمالية، وهو ما زاد عدد الأصوات المنادية برأسمالية أخلاقية، من ذلك ما قاله نيكولا ساركوزي "لقد حان الوقت لجعل الرأسمالية أخلاقية بتوجيهها إلى وظيفتها الصحيحة، وهي خدمة قوى التنمية الاقتصادية وقوى الإنتاج، والابتعاد تماماً عن القوى المضاربة". ومن ذلك ما قاله الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا "إنّ الأسواق الناشئة التي قامت بكل ما يلزم لتبقى اقتصاداتها مستقرة، لا يمكن أن تصبح اليوم ضحية للكازينو الذي أداره الأميركيون بأنفسهم".
يعدّ هذا التوجه نحو ابتداع أخلاق للرأسمالية إشارة واضحة بأنها بشعة لا تطاق إذا ما تركت على سليقتها، وبأنه لا بد من كبح جماحها كي لا يتكرر تسونامي الجائحة المالية على هذا النحو مرة أخرى. إلاّ أنّ أحداً لم يفدنا من أين يمكن استيفاء تلك الضوابط والمعايير الأخلاقية، أو من أين يمكن استعارتها لتجميل وجه الرأسمالية القبيح وإنقاذها من الانهيار.
البدائل الإسلامية
في خضم هذه المعمعة، تكاثر الحديث وفي أوساط مختلفة عن البدائل الإسلامية لمعالجة بعض أشكال الأزمة، أو بشكل أدق عن دمج بعض أشكال المعاملات ذات الصبغة الإسلامية في النظام الرأسمالي المعمول به عالمياً. وهو ما أدى ببعض متصدري العمل الإسلامي إلى اعتبار ذلك فرصة سانحة لتفعيل مفهوم "البنك الإسلامي" و"الصك الإسلامي" وعرضهما كنموذجين يوضحان مدى صلاحية أحكام الشريعة الإسلامية وقدرتها على الانخراط في النظام الاقتصادي المالي العالمي والتأثير فيه ايجابياً.
اللافت للنظر مقابلة بعض الأوساط الغربية الفاعلة تلك الدعوات بترحيب حار، حتى أخذت لندن وباريس تتنافسان على التحول إلى عواصم للتمويل الإسلامي بحسب ما صرح ممثلون عن كلا الحكومتين اللتين بدأتا تدعوان إلى إيجاد آليات لدمج صيغ المعاملات الإسلامية ضمن النظام المالي الرأسمالي المعمول به حالياً.
وهذا ما يثير العديد من الأسئلة حول النوايا المضمرة لتلك الأوساط، والتي تهدف من هذا الترحيب، على ما يبدو، إلى احتواء الطاقات والموارد والأموال الإسلامية المتوفرة بكثرة للمساهمة -ولو جزئياً- في إعادة التوازن إلى أسواق المال المضطربة.
إشكاليات البدائل المقترحة
ثمة إشكاليات كثيرة في ثنايا هذا الطرح، في مقدمتها لماذا يجب على الإسلام مدّ يد العون لانتشال الرأسمالية من الدرك الذي وصلت إليه. ومن ثمّ لماذا يستعمل الإسلام لترقيع الرأسمالية رغم كل التباين بينهما في الشكل والجوهر. وأخيراً هل يمكن دمج المعاملات الإسلامية في النظام الرأسمالي المعمول به دون الإخلال بالأحكام الشرعية ذات الصلة؟
لعلّ أسّ المشكلة في الطروحات المعروضة هو تقديم الحلول الإسلامية من ضمن النظام الرأسمالي لسد ثغراته ومساعدته على الصمود أمام الموجة العاتية التي تسببت بها الأزمة العالمية والتي كشفت خوار النظام الرأسمالي وأظهرت عوراته للملأ.
ولو أن ما يتم عرضه من حلول إسلامية هو بدائل جذرية لتوجهات النظام الرأسمالي ولو في بعض جوانبه (كالدعوة إلى إقامة نظام لنقد عالمي على أساس غطاء تام من الذهب والفضة بحسب أحكام الشريعة الإٍسلامية)، لأدركنا أن لأصحاب تلك الدعوات مبررات وجيهة، على اعتبار أنّ في ذلك عرضاً لبعض جوانب الإسلام المضيئة من غير تأويله أو تعديله بما يجعله قابلاً للاندماج في معترك معاملات النظام الرأسمالي.
ومن ثمّ فإنّ محاولات دمج الإسلام في الرأسمالية على النحو المطروح يؤكد أوهام الذين يشيرون إلى أن الإسلام مجرد أداة من أدوات الرأسمالية. تلك التي تدعمه عسكرياً ومالياً ومعنوياً حين يلزم، كما فعل الغرب الرأسمالي لطرد الشيوعيين من أفغانستان ولاستنزاف الاتحاد السوفيتي سابقاً، ثم تستعمله حين تريد ذريعة للهيمنة على العالم ومصادر الطاقة فيه كما فعلت أميركا زعيمة الرأسمالية في العالم تحت عنوان "الحرب على الإرهاب" وها هي الآن المؤسسات الرأسمالية تريد أن تقحم الإسلام أسواقها المالية كي تمتص ما تبقى من أموال المسلمين بعد أن نهبت خيراتهم على مدار عقود طويلة.
ثمة مشكلة أخرى في تسابق أصحاب "المبادرات الإسلامية" إلى تسويق قبول مقترحاتهم وكأنها انتصار للإسلام، غافلين عن كون العقلية الغربية الرأسمالية مرنة للغاية وتتعاطى ببراغماتية مع أي حل محتمل يُسهم في تجاوز ما يعترضها من مشاكل، لا بوصفه حلاً صحيحاً مطلقاً أو مقدساً أو تابعاً لأيديولوجية معينة، إنّما كونه يخدمها في تجاوز عثراتها. ولذلك لن يتوانى الرأسماليون البتة عن استبدال "المعاملات الإٍسلامية" بغيرها فور تجاوز الأزمة الاقتصادية واستنفاد حاجتهم لتلك النوعية من المعاملات.
بل إنّ الغرب قد لا يتوانى عن اعتماد الصبغة الإسلامية مؤقتاً لوضع مساحيق تجميل على وجه الرأسمالية البشع وتقديمها بالتالي كرأسمالية أخلاقية، وفي الوقت نفسه يحمل الإٍسلام عبء أي فشل يقع في هذا الإطار أو على الأقل يكون شريكاً فيه. كما تحمل عبء ما وقع من شركات "توظيف الأموال الإسلامية" سابقاً وكذلك "الحكومات الإسلامية" التي رفعت شعار الإسلام زيفاً بينما مارست نقيضه في الواقع، وبالتالي كانت تجارب مريرة، استعملها البعض للدلالة على عجز الإسلام وقصوره عن معالجة المشاكل الحادثة.
عن الموسوعة العلمية